بسم الله الرحمن الرحيم
إن الموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها دفعاً , وهي تتكرر في كل لحظة ويواجهها الجميع دون استثناء، قال تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، إنها نهاية الحياة واحدة فالجميع سيموت لكن المصير بعد ذلك يختلف،" فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وفي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به من نذير، فكفى بالموت واعظاً .
قال مالك بن ينار: ( لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً ).
لذا ينبغي على العاقل أن يحدث توبة خالصة نصوحا قبل أن يأتيه الموت , فلا تنفعه وقتذاك توبة , ولا يقبل منه رجوع , قال تعالى :" إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) سورة النساء .
كما أن عليه أن يعرف أن أبواب التوبة – ما دامت روحه في جسده – مفتوحة , وأن مسالك الغفران ممنوحة , قال سبحانه : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) سورة الزمر .
وعليه أن يعرف أنه " رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلا , ورب شهوة ساعة أورثت ذلا وانكسارا ".
قال ابن القيم : اعْلَمْ - أَصْلَحَ اللّاهُ قَلْبَكَ - بِأَنَّ القَلُوبَ تَمْرَضُ بِالمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَتَأثِيرُ "الذُّنُوبِ فِي القُلُوبِ كَتَأثِيرِ الأَمْرَاضِ فِي الأَبْدَانِ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ القُلُوبِ وَدَاؤُهَا، وَلا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا تَرْكُهَا. الداء والدواء (ص121).
فلا يستهين بالمعاصي لأن آثارها مضرة ونتائجها وخيمة , فمن آثار المعاصي : سواد في الوجه وظلمة في القلب، وضيقه وهمه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه في مقاومة عدوه وتعريه من زينته بالثوب الذي جعله الله زينة له وهو ثوب التقوى، ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه أو يحرم بركته ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها أن يحرم حلاوة الطاعة فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة وزيادة الإيمان والرغبة في الآخرة فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابد. ومنها قوة القلب واعلموا أيها الإخوة أنه ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب وإنما خلقت النار لإذابة القلوب القاسية وإذا قسى القلب قحطت العين وجفت من الدمع.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ :
رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ * * * وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ * * * وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ* * * وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
ومما يبعد المرء عن المعاصي حسن المراقبة وتفقد الخشية والمحاسبة , قال سبحانه :" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) سورة النساء , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدِى فَقَالَ اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. أَخْرَجَهُ أحمد 2/132(6156) السلسلة الصحيحة " 3 / 460.
قال سهل بن عبد الله التستري : " كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم بالليل، وكان يقول: يا سهل، اذهب ونم، فقد شغلت قلبي ، وقال لي يوماً خالي: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قلها في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوة. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه وهو ناظر إليه وشاهده لا يعصيه، إياك والمعصية . إحياء علوم الدين 3/74.
قال الشاعر :
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى العصيان
فاستح من نظر الإله وقل لها*** يا نفس إن الذي خلق الظلام يراني.
وقال آخر:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ * * * خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً * * * وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيْبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ * * * ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوْبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى * * * وَيَأْذَنَ في تَوْبَاتِنَا فَنَتُوْبُ
وعَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا . أخرجه ابن ماجه (2/1418 ، رقم 4245) ، قال البوصيرى (4/246) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 18.
قال الشاعر:
تَفْنَى اللَّذَائِذُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا*** مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا *** لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِن بَعْدِهَا النَّارُ
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لق الخطايا ؟ قال : أجاهده .قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .قال : هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي .قال : هذا يطول عليك ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك .- إن صدقت هذه الرواية - لم يكن تاركاً الدنيا كسباً، بل قلباً. ابن الجوزي : تلبيس إبليس 35.
قال الصولي :
ابك يا نفس وهاتي * توبة قبل الممات
قبل أن يفجعنا الده * ر ببين وشتات
لا تخونيني إذا مت * وقامت بي نعاتي
إنما الوفي بعهدي * من وفى بعد وفاتي
روى : أنّ رجلاً تزوّج امرأة من بلدة ، وكان بينهما مسيرة شهر ، فأرسل إلى غلام له من تلك البلدة ليحملها إليه فسار بها يوماً ، فلما جنّه الليل أتاه الشيطان فقال له : إنّ بينك وبين زوجها مسيرة شهر فلو تمتعت بها ليالي هذا الشهر إلى أن تصل إلى زوجها ، فإنها لا تكره ذلك وتثني عليك عند سيدك فتكون أحظى لك عنده ، فقام الغلام يصلي فقال : يا رب ، إنّ عدوك هذا جاءني فسوّل لي معصيتك ، وإنه لا طاقة لي به في مدة شهر وأنا أستعيذك عليه يا رب فأعذني عليه ، واكفني مؤونته ، فلم تزل نفسه تراوده ليلته أجمع وهو يجاهدها حتى أسحر فشّد على دابة المرأة وحملها وسار بها ، قال : فرحمه اللّه تعالى ، فطوى له مسيرة شهر فما برق الفجر حتى أشرف على مدينة مولاه ، قال : وشكر اللّه تعالى له هربه إليه من معصيته فنبأه ، فكان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل. قوت القلوب 2/235.
وعن يوسف بن الحسين قال : ( كنت مع ذي النون المصري) على شاطئ غدير فنظرت إلى عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة ، وإذا بضفدع قد خرجت من الغدير فركبتها العقرب فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت الغدير! فقال ذي النون إن لهذه العقرب شاناً ! فامض بنا نتبعها! فجعلنا نتبع أثرها فإذا رجل نائم سكران! وإذا حية سامة قد جاءت إليه فصعدت من ناحية سُرّته إلى صدره وهي تطلب إذنه، فاستحكمت العقرب من الحية السامة فضربتها فانقلبت الحية وهربت ! ورجعت إلى الغدير فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت ! ، فحرك ذي النون الرجل النائم ففتح عينيه ، فقال : يا فتى انظر مما نجاك الله ! هذه العقرب أرسلها الله إليك ، فقتلت هذه الحية التي أرادتك بسوء! ثم انشأ ذي النون يقول :
يا غافلا والجليل يحرســه * * * من كل سوء يهدب في الظُلم
كيف تنـام العيون عن ملك * * * تأتيه منه فوائــد النعـم
فنهض الشاب وقال ( إلهي ومولاي : هذا فعلك بمن عصاك ! فكيف رفقك ورحمتك بمن يطيعك )؟! ثم ولى ذاهبا فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى بيوت الله والى طاعة الله . ابن قدامة : التوابين 227.
اللهم ارزقنا الرشد والثبات والتوبة قبل الممات .